لا متسع لدمية
أقف الآن في صف يطول ويتلوى بحسب الحواجز المؤقتة المنصوبة هنا في صالة المطار تمهيداً لتسليم الحقائب وفحص جوازات السفر، يتقدمني الآن رجل خمسيني تفحص له الموظفة تذكرته وجواز سفره بينما يضع حقيبته فوق ميزان الكتروني.. لا أعلم لم يتسرب إلي الآن خوف من إمكانية وجود حمولة زائدة في حقيبة سفري التي أصرت أمي على أن تحشوها لي بمختلف الأمتعة وبعض الأطعمة مثل الجبنة النابلسية البيضاء والزعتر والميرمية خشية أن أحتاج أي شيء خلال رحلتي هذه، ولا أدري لم غفلت عن التأكد من وزن الحقيبة قبل الوصول إلى المطار لكن هذه أول تجربة سفر لي بعد أن بلغت الثالثة والثلاثين من العمر ولم يخبرني أحد عن هذه الإجراءات! آه لو تعلم أمي أي رعب أختبره الآن! ربما ستغضب تلك الموظفة مني وربما سترجعني من حيث أتيت وربما سيحقد علي بقية المسافرين المصطفين في هذا الدور الطويل لتسببي بتأخيرهم، آه يا أمي لقد أخبرتك أن لا تضعي الكثير من قطع الصابون النابلسي، كيف سيكون مظهري وأنا أفتح الحقيبة بكل خصوصية محتوياتها أمام كل هؤلاء البشر!
تذكرت فجأة وجه أمي صباح أمس بعد أن أنهت وتأكدت من جهوزية حقيبتي، وفرحتها بظهور نبتة ما في أصص بلاستيكي معاد استعماله، مصفوف إلى جوار آخرين مثله بحرص على سور منزلنا في المخيم حيث أقيم مصابة بارتباك محاولة الاختيار بين استمرار الارتباط بالمكان أو الخروج عن تلك العواطف المرتبطة بما يسمى بالانتظار لتحقيق العودة والصبر الذي بادلنا شوكه حتى أمسى أملساً خالياً من معاناة الوصول إلى حلاوة الطعم المختزنة داخل ثماره وأصبحنا نحمل عوضاً عنه أشواكاً ينفر خوفاً منها كل ما ومن حولنا! لكن فرحة أمي صباح أمس أنستني للحظات أشواكنا المكتسبة تلك.
أحمل الحقيبة قليلاً بيدي وأحاول تقدير وزنها وأحدث نفسي مطمئنة إياها: ” لو كانت تزن أكثر من ثلاثين كيلوغراماً لما استطعت حملها” لكن مشهد الميزان الموجود أمامي كان كفيلاً بتحطيم كل وهم الطمأنينة تلك، تلمحني موظفة تدقيق الجوازات فأعيد الحقيبة أرضاً وأبادلها ابتسامة بلهاء تشي بخوفي المبطن من فقدان متاعي، هذا الخوف الذي يرشح مني الآن كما فاض مني على هيئة غضب مستعر في وجه أخي الذي حاول قبل أشهر اقناع عائلتي بالخروج من المخيم وكنت برأيهم السيدة المعترضة على ذلك، وفي النهاية قررت أن أحتفظ باعتراضي ذاك لنفسي لأحمي حلمهم من أنانيتي ربما! إذ حتى أصغر المؤسسات هنا تنتقد معارضتك لفكرة تراها هي خطوة سهلة نحو التقدم والاستمرار.. بينما كنت أراها أنا كبيرة بحجم الفقدان! فقدان الأشياء الصغيرة التي كنت أمتلكها ذات استقرار مؤقت شعرت به على امتداد العقود الماضية، إذ وضمن جولات لجوء عديدة كأنما بدأت منذ أكثر من سبعين عاماً.. تراكمت خلالها تجاربي المتوارثة لحزم أمتعة شخصية على عجل وخوف من موت قريب، حتى أني بت أحمل معي جواز سفري أينما تنقلت حتى وإن كنت داخل مدينة ما؛ كل ذلك خشية أن أتعرض إلى لجوء مفاجئ أضطر معه إلى الخروج خارج الحدود!
ففي المرة الأولى لحزم الأمتعة نزلت عند رغبة والدتي التي أقنعتني بالتنازل عن دمية لزيادتها عن الحمولة التي تستطيع حملها في مسارات الهرب من الحرب.. فتركتها في البيت غافية على الكنبة القديمة هناك وخرجنا بعد اقفال البيت وقد أقنعتني أمي بالعودة بعد بضعة ايام.. تركت لها بالقرب منها فتات خبز وماء، لكننا لم نعد حتى الان!! وفي المرة الثانية كانت دميتي متقنة الصنع وأقرب إلى ملامح طفل حقيقي أكثر من الدمية الأولى، وقد أقنعت والدتي حينها بأن تلفها لي “بالكوفلية” كما فعلت هي بأخي الرضيع الذي كان يغفو إلى جوارها في السرير لأتصنع بسبب غيرتي الطفولية دور الأمومة لدمية احتارت جاراتنا اللاتي زرن أمي في منزلنا وسألنها: “هل أنجبت صبياً واحداً أم توأماً؟ ما شاء الله!” ضحكت حينها أمي والنسوة وهربت بحلمي ذاك خارجة نحو الباب، فقد طلبت بعدها أمي مني الاستغناء عن دميتي تلك مرة أخرى لكنها تعهدتها بالرعاية بأن وضعتها بين أيدي طفلة أخرى من أقاربنا كونها ستشكل حمولة زائدة لا متسع لها في رحلة عودة أخرى عبر الحدود! قبل بضع سنوات وفي زيارة لأقاربنا أولئك كنت سأهمّ بسؤال تلك الطفلة -التي أصبحت أماً الان- عن تلك الدمية لولا “نكزة” والدتي لي في خاصرتي لكي أصمت، فانصعت لها وصمت!
يوشك الرجل على إنهاء التأكد من أوراقه الثبوتية وها هو يلملمها من الشباك ويحفظها تباعاً في حقيبة جلدية صغيرة يبدو أنه سيحملها معه في الطائرة، يلتفت إلى الخلف ويبتسم لي كأنما يعتذر عن تأخير ما، أبادله الابتسامة مع انحناءة رأسي احتراماً له، وها هو يترك شباك الفحص ويتوجه إلى صالة أخرى فتشير لي موظفة الشباك بالتقدم نحوها، أمسك يد الحقيبة وأجرها إلى الامام فأشعر بثقلها الحقيقي ويعود ذلك الخوف ليتسرب من خلال يدي التي بدأت ترتجف فجأة، أسلمها جواز سفري وأضع الحقيبة على ذلك الميزان الالكتروني اللعين حيث أشارت لي أن أفعل ذلك، أرى نظرتها وقد تغيرت الآن! تلك الابتسامة المرحبة التي كانت منذ لحظات تعلو وجه موظفة الاستقبال اختفت لتخبرني بأنني أمتلك حمولة زائدة!
أشعر بالارتباك الآن، رباه ماذا يمكنني أن أفعل! كيف سأخبرها بأن ما نطقت به للتو يشكل أكبر مخاوفي! فقبل أيام في معرض للكتاب وجدت صدفة احدى قصص مجموعتي القصصية المصورة الأولى والتي أهداني إياها والدي من سلسلة “أنا أقرأ”، كنت قد نسيت تفاصيلها لكني لا زلت أذكر ملامح وألوان الرسوم داخلها، وصوت أمي الذي كان يعلو وينخفض بوتيرة تتماشى مع أحداثها، كنت قد نسيت امتلاكي لها ذات صيف وأحسب أن ضحكة البائعة المستغربة لسر فرحي الذي انسكب علي عند رؤيتي لإحداها قد كان ترجمة فعلية لاستنكار فرح ثلاثينية بقصة أطفال لسن الخامسة فما فوق خاصة وأنني أضفت الى استغرابها ذاك سؤالي البريء: إن كان يتوفر لديها قصص أخرى من ذات المجموعة؟ لتجيبني نافية ومستغربة شعوري الذي لا بد قد تسرب من عيني بأنني استعدت جزءاً مني كنت قد فقدته قبل حوالي ثلاثين عاماً عشتها برهاب أطلقت عليه اسم “الحمولة الزائدة”، فعلى مدار تلك السنوات التي تلت، فقدت في كل مكان مكثت فيه لفترة شيئاً مني كأنما خشية الاحتجاز أو المنع بعذر الحمولة الزائدة! لا دمى ولا قصص ولا أحلام ولا ذكريات ولا خطط مستقبيلة ولا أحقاد ولا مودات ولا أصدقاء ولا أعداء؛ حتى أنني قد تحولت إلى ما يشبه ما كنت مصابة به من رهاب، فالغالبية باتت تتنازل عن وجودي خوفاً من أن أشكل حمولة زائدة لا طائل منها بالنسبة لهم وقد أصبحت فعلاً كذلك بعد إفراغ كل حمولتي بفعل خوفي غير المبرر!
لا بد وأنها تشعر الآن بخوفي الذي يجمدني في مكاني والذي أوشك أن يتحول إلى غضب مصحوب بالبكاء، ولعل هذا ما جعلها تخيرني بين التخلص من جزء منها أو أن أدفع مبلغاً مالياً مقابل السماح بكل تلك الحمولة بالمرور! أدهشتني روعة الخيارات فببساطة تعجبت بعد كل ما خبرته وجود رفاهية خيار يمكنك من دفع مبلغ مالي مقابل الاحتفاظ بكامل أمتعتك! وهو ما يجعلني الآن أشعر بالفرح والطمأنينية، أفتح حقيبتي المعلقة على كتفي وأنا أنظر خلفي إلى الصف الطويل الذي ينتظر إتمامي للإجراءات ليحين دورهم، ابتسم وأتناول المبلغ المطلوب وأدفعه للموظفة لتكمل إجراءاتها وتعدل بيانات تذكرتي، أشكرها وأمشي نحو ذات الصالة التي سبقني إلها ذاك الرجل، وأنا أفكر أنه سيعود كل إلى منزله عند نهاية هذا اليوم، سيغلق باب غرفته بعد تناول وجبة العشاء برفقة أسرته ويشاهد حلقته المفضلة من مسلسل درامي يعرض على شاشة ما بلغة ما – فلم تعد اللغة عائقاً في وجه متابعة مسلسلات بمختلف الجنسيات طالما هي مترجمة – سيغفو وهو يشاهدها أو ربما يؤجل غفوته لحين الوصول إلى السرير، ليضع رأسه على تلك الوسادة ويغط دون أفكار أو قلق يتعدى تبعيات تطبيق قانون ما أو تأخر الراتب أو علامات ابنه وابنته المدرسية وربما حسابات تطمئنه إلى قدرته المالية لسداد قروض بنكية… وسأبقى أنا حين عودتي محدقة في ذاك السقف راجية ألا يسقط على حين غفلة منا جميعا، سقف بعمود هرم مصاب بشرخ لضعف مصنعيته ومواصفاته المؤقتة، وأخشى أنه قد بات يحمل حمولة زائدة! فاقتنع وأنزل عند رغبة عائلتي وأبدأ معهم رحلة البحث عن بيت للجوء جديد لا متسع فيه لدمية.