شارع الشمس
شارع الشمس
طوال عمري، كنت أصاب بالذهول عندما أستيقظ باكرا. كان الصبح دوما غريبا ثقيلا يسبب لي ألما في مقدمة رأسي، أما الصباح في برلين فيسبب لي ألما من نوع آخر. كنت قد أخذت موعدا مع طبيبة ألمانية أصرت سكرتيرتها أن آتي في الساعة السابعة صباحا. لم أقل شيئا لكني كنت أرفض ذلك الموعد وأرفض لهجتها المتكبرة الآمرة وأرفض تفوقها لأنها تستطيع أن تقول أي شيء تريده. أما أنا فلدي مخزون ضئيل من الكلمات أرتب جملي حولها. أما الأفعال فأقطب وأنظر للأعلى وأنا أحاول تصريفها. أعرف أسماء الأيام والأرقام وأعرف أن أقول في الساعة كذا أو كذا. أما ما كنت أريد أن أقوله لها فهو أن برلين مدينة لئيمة ومعتمة وكريهة. كنت أريد أن أخبرها أن صدري ينقبض عندما أصحو في مثل تلك الساعة لأذهب للحمام فألمح مشهد الأفق الملبد من بين البنايات الرمادية التي بنيت على الطراز السوفياتي البغيض. أعود بسرعة للسرير حيث أخفي رأسي بين الوسائد وأهرب لصباح أكثر رأفة في مكان آخر.
لم أستطع تغيير الموعد، ذهبت الثلاثاء في السادسة والنصف صباحا متجهة للعيادة. لم أكن أشعر بالمرض عندما أخذت الموعد لكني شعرت به وبأمراض كثيرة أخرى وأنا أسير للعيادة. كنت أريد أن أصرخ في السائرين ذلك الصباح: أيها المستيقظون المنومون المغيبون المبرمجون الضالون، أنا نبيتكم هذا الصباح ولا رسالة لدي سوى أن أعيدكم لمنازلكم لترتشفوا عصير برتقال طازج وتتناولوا بيضا تحضرونه حسب ما تشتهون. تأكلونه مع من تحبون ثم تلمسون خدهم برفق. عودوا لبيوتكم واتركوا بعض الوقت للشمس لتفرك عينيها.
وصلت لتلك البحيرة المتجمدة خارج المبنى حيث تقع العيادة. أردت بشدة أن أعرف كم سمك ذلك الجليد الذي يغطيها. لدي بعض الدقائق أستطيع بها أن ألهو قليلا. صرت أبحث حولي عن حجر. لو كان جليدا هشا، سيكون صوت تهشمه مثل صوت زجاج ينكسر وسينبعث الماء بسهولة للسطح. أما إذا كان صلبا، فقد لا ينجح حجري باختراقه وسأسمع صوت ارتطام الحجر بالجليد الصلب. نظرت حولي لأجد حجرا يجيبني على سؤالي. لم أجد أي حجر حولي. بحثت وسرت قليلا، لم أجد أي حجر. كيف لا يوجد أحجار؟ ماذا لو مر جيب عسكري الآن وقرر الأولاد في الحي أن يلقنوه درسا. كيف تعيش مدينة بلا أحجار؟
أنا من سعيت خلف هذه المدينة لكني الآن أتمنى أن تلفظني وتعيدني من حيث أتيت، حيث الأولاد يصرخون والباعة يصرخون والأمهات تصرخن والآباء يصرخون وميكروفونات المدارس تصرخ وخطباء المساجد يصرخون والسيارات العسكرية تصرخ وأنا أصرخ.
رأتني الطبيبة وطلبت أن أجري بعض الفحوصات وأعود إليها الأسبوع الذي يليه. خرجت وعدت للتحديق في البحيرة المتجمدة. ابتعدت وانطلقت نحو أقرب محطة مترو. كنت أعرف تماما أين يجب أن أذهب. سأذهب إلى محطة .Sonnenalle سأذهب حيث تشرق الشمس من محلات الفلافل والشاورما والبقلاوة ومن أغاني المهرجانات التي تلعن الحياة وخيانة الأصدقاء والحب الذي لم ولن يكتمل. في تلك اللحظة، شكرت الله لأن ملايين السوريين قد هجروا. لقد جاؤوا لتصبح برلين أكثر ألفة. لقد جاؤوا وجلبوا حزنهم الذي صرّوه في صرر عبروا بها الحدود وحرس الحدود لأشعر أنا أنني بين من هم مثلي. أصدفة أن الشارع الذي يقطنه الكثير من السوريين في برلين اسمه Sonnenallee أو شارع الشمس؟ لا، ليست صدفة على الإطلاق. هناك تشرق الشمس ترفقا بسكانه لتجفف ما علق بالوسائد من دمع سكب في حب الأوطان الخائبة. هناك في شارع الشمس أصبح مكتملة العناصر. هناك فقط، تترتب جملي وكلماتي ببساطة كما يرتب صاحب المحل محتويات سندويشة الفلافل دون عناء، هناك فقط في شارع الشمس.